يتسم الحوار مع الباحث في التراث والفلسفة الدكتور رشيد الخيون بالمثاقفة مع شخصية مهذبة وهادئة، وإن كان داخله يمور بالمعارف والاقتناصات النادرة. يملك شيفرة خاصة تمكنه من التعامل مع التراكم المعرفي التاريخي للعرب والمسلمين بعين ناقدة، وشأنه شأن الفلاسفة في تمحيص الأقوال وتوثيقها، وعرضها على الوعي المحايد. قدّم أعمالاً نوعية للمكتبة منها (المباح واللامباح، ومذهب المعتزلة من علم الكلام إلى الفلسفة، وجدل التنزيل، وتراث التسامح والتكاره، والعقاب والغلو في الفقه والتراث الإسلامي) وغيرها، مما نال عليه الجوائز والتقدير.لواصق «قوقل» فتحت باب السرقات
لم يوفق أبو هلال العسكري في كتابه «الأوائل»
لا أحاسب أحداً خارج عصره
المنطقة في غليان والكفة لصالح العقل
«الاتجاه المعاكس» زعيق في زعيق
أردوغان انتهازي يعزف على «أحبولة الدين»
لا قيود ولا حدود في الحوار الثقافي
الخيون أكد في حواره مع «عكاظ» أن لصوص الكتابة أخطر بكثير من لصوص المال، فقد تجد كثيرا من لصوص المال اضطروا للسرقة بسبب الحاجة للطعام أو الكساء، ولكن ما حجة وعُذر سارق الكتابة؟ وإلى نص الحوار:
• ما أبرز نتائج كتابك الأخير (اللصوص في التراث العربي الإسلامي)؟ وهل هي صادمة؟
•• بلا شك، لابد أن يكون هنالك سبب للبحث في هذا الموضوع بالذات، مع أنه في دائرة اهتماماتي بما يخص التُّراث العربي الإسلامي، والسبب هو الفساد الحكومي والحزبي المتعاظم، وحتى هذه اللحظة وكأن أبا فرج عبدالرحمن المشهور بابن الجوزي، المتوفى 597هـ، قالها في كتابه «المنتظم في تاريخ الملوك والأُمم» الآن: «كان اللُّصُوص يمشون بثياب التُّجار في النَّهار»، ومِن جانب آخر صارت اللصوصية الأدبية، أو مثلما عبرتُ عنها في الكتاب، الجاهز للنشر، لصوصية الكتابة أو الحروف، فقد تعاظمت أيضاً وبلا خجل، للأسف الفقه لم يراع هذا النوع مِن السَّرقة، مع أنها كانت معروفة قديماً، وحذر منها أبو الحسن المسعودي، المتوفى 346هـ، في تاريخه «مروج الذهب ومعادن الجوهر»، وجعل تحذيره في مقدمة كتابه وفي خاتمته، كذلك شكا منها بألم جلال الدين السِّيوطي، المتوفى 911هـ، في رسالتين: «الفارق بين المصنف والسَّارق»، و«البارق في قطع السارق»، وذلك لما سرقه أحد تلامذته، وستجد كبارا سارت الركبان بذكر أدب شيدوه على جهود غيرهم، ولصوص المال يحققون نجاحات ويشكلون حكومات وجيوشهم من قطاع الطرق واللصوص، ويظهر لك من يتزيا بالصلاح والورع ولكنه في السابق كان لصاً، لكن توبته كانت نصوحا، ويظهر لك العدد غير القليل من القضاة والفقهاء الذين قتلهم اللصوص، حتى أبو نصر الفارابي الفيلسوف، وجدت أن اللصوص قد قتلته، وهو في طريق بأراضي الشَّام، وستجد وزراء وحُكاما كانوا شُركاء للصوص، أي يغضون الطرف عنهم، وإذا ما قبضتهم الشرطة متلبسين يفزع لإطلاق سراحهم، ومن أشهرهم (اللص ابن حمدي). بطبيعة الحال الآية واضحة في قطع السارق والسارقة، لكن في السرقة الأدبية يقول الشَّاعر الفرزدق، المتوفى السنة 110هـ: «خير السرقة ما لا قطع فيها». تستغرب أن مَن كتب في سرقات المتنبي تجده هو نفسه سارقاً، وهذا ما عبرنا عنه بسرقة المسروق، وقد حصل كثيراً أن السراق يسرقون بعضهم بعضا.
• ما الفرق بين لصوص المال ولصوص الكتابة؟
•• لا فرق مِن حيث التعبير والفعل، لكن من وجهة نظري أن لصوص الكتابة أخطر بكثير من لصوص المال، فقد تجد كثيرا من لصوص المال اضطروا للسرقة بسبب الحاجة للطعام أو الكساء، ولكن ما حجة وعُذر سارق الكتابة؟ أجده لا يريد غير الشهرة، وبينهم مَن حصد جوائز فخمة، بينما هو كان سارقاً، ومِن وجهة نظري، من يسرق سطراً لا يؤتمن على كتاب على الإطلاق، وأن لا فرقَ بين سارق الدرهم وسارق الدينار، وقد اعترض أبو العلاء المعري، المتوفى السنة 449هـ، على مقدار السرقة الذي تقطع اليد به، وهو مختلف عليه أيضاً بين بعض الفقهاء، ببيت شعر معروف: «تَناقضٌ ما لنَّا إلا السُّكوتُ له، وأن نعوذُ بمولانا مِن النَّار/ يدٌ بخمس مئين عسجدٍ وديت، ما بالُها قُطعَتْ في ربعِ دينارِ». ردَّ على المعري، في هذه القضية بالذات مِن مجايليه، كالشَّريف الرّضي، المتوفى 406هـ بالقول: «صيانة النفس أغلتها وأرخصها، خيانة المال فافهم حِكمة الباري»، كذلك رد عليه، في ما بعد، ابن قيم الجوزية، المتوفى 751هـ، من دون أن يذكر اسمه. فخطر لص الكتابة يشغل العقل، ويُغري الناس به في ما ليس من حقه، كذلك كانت الحيل التي يستخدمها لصوص الكتابة فظيعة، تضيع بها المعاني والألفاظ، ويتم تحريف الكتب عن طريق ما يُعرف بالتهذيب، لتسهيل القراءة والفهم على الناس، لكن تجده المُهذب قد حرف الكتاب، ليس تحريف الكتاب فقط بل عمد إلى تحريف مذهب صاحب الكتاب، مثلما حدث لكتاب أبي حامد الغزالي، المتوفى السنة 505هـ، «إحياء علوم الدين»، هُذب إلى كتاب «المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء»، ومِن قبل الفيض الكاشاني، المتوفى السنة 1019هـ، كتاب عبدالرزاق الحسني في الأيزيدية يُسرق ثلاث مرات، ومن الطرافة عندما يذكر الحسني طبعات كتابه، يعد الطبعات المسروقة ضمنها، مع عبارة صدر باسم فلان مع التحريف، فأنت في أول وهلة تشك بأن هذا فلان هو اسم مستعار للحسني، ولكن فلان كان السارق.
• ألا تسهل مواقع التواصل السرقات الأدبية؟
•• هذا ما نعبر عنه بلواصق «قوقل»، نعم في وسائل التواصل الاجتماعي السرقات «حدث ولا حرج»، وتتم بكل صفاقة، تصور مرة وضعت تغريدة عن والدتي وكيف كانت تتعامل مع جيراننا الصابئة المندائيين، أيام زمان طبعاً، فأخذها أحدهم ووضع صورة أمه مكان صورة أمي. واعتبر النص له. ضحكت عندها، وقلت هذا مفيد. لكن مع كثرة السرقات اليوم عن طريق الإنترنت «لواصق قوقل»، وقد خلقت كُتابا يتحايلون على النقولات والإحالات إلى المصادر، مع ذلك فالإنترنت كفيل أيضاً بكشف السرقة، وكشف التحايل على المصادر. غير أن كثرة الإنتاج، بما يسمى بالإسهال في التأليف، أحد معطيات عالم الإنترنت، وأعيد وأقول وفق «لواصق قوقل»، حتى الترجمة صارت سرقة، يأخذ النص بالألماني مثلاً فيضعه في قسم الترجمة من قوقل فيظهر له بالعربية، فيكون سرق لكن بالألماني، وهذا معروف.
• بحكم العلاقة الوطيدة بالتراث، هل مرت بالمسلمين أوقات عصيبة أشد مما هي عليه اليوم؟
•• نعم، مرت عواصف من المحن، وفي مختلف العهود، لكن الإنسان دائماً عندما يشتد عليه الحاضر ينسى آلام الماضي، ويعتبره رحمة قياساً بالحاضر، فلا أظن أن اجتياح تيمورلنك لبغداد، في القرن التاسع الهجري، كان أقسى ما مر عليها في السنوات الأخيرة، ولا أظن أن حرب الأمين والمأمون ابني هارون الرشيد، وما بعدها بسنوات، بين 196-204هـ، كان أقل مما حصل بها، في ما بعد. كذلك مرت مجاعات خانقة، وصل بها البشر يأكلون السنانير والكلاب، ويسرقون الأطفال لأكلهم، ولا أظن احتلال سليم الأول لمصر كان هيناً أو أقل مما نقرأه من احتلال بريطاني أو فرنسي، ترك سليم الأول القاهرة، السنة 1517 ميلادية بركاً من الدماء، وهذا ما يخبر به معايش الحدث ابن إياس الحنفي، في تاريخه الزهور، وغير هذا كثير، والصفويون عندما دخلوا بغداد كانوا يقتلون على المذهب، حتى أن الشيخ دراج وهو سادن ضريح الحسين بكربلاء، عندما طلب منه عباس طهماسب الصفوي أن يكتب له أسماء السنة لقتلهم، صعب على الرجل ذلك، فكتب بأن الجميع شيعة كي يحميهم، وبالفعل حماهم، لكن يأتي والي عثمان ويقتل دراج بتهمة لا أصل لها، هذا ما قرأته عند المؤرخ العراقي الفذ عباس العزاوي في «العراق بين احتلالين». لكن الأزمات عندما تشتد تكون نهاياتها قريبة، وتنفرج، فبعد العثمانيين شيدت القاهرة وبغداد من جديد.
• أي العصور الإسلامية يصلح للتأسيس المعرفي والثقافي في هذا العصر؟
•• لا أتفق على أن يكون التأسيس على ما مضى مهما كان، لكن أن يؤخذ عبرة، ويُستفاد منه في تجاوز الواقع، وخصوصاً بما يتعلق بالدين، فأرى أن عصر عبدالله المأمون، المتوفى 218هـ، كان فيه انتعاش ثقافي غير عادي، قياساً بذلك الزمن، وأن القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي شهد تطوراً كبيراً في الأدب والفلسفة، ففيه ظهر أبوحيان التوحيدي، المتوفى 414هـ، وأبو العلاء المعري، وجماعة إخوان الصفا، إلى جانب شعراء كبار كأبي الطيب المتنبي، المقتول بالعراق 354هـ.
• ما منطلقاتك وأنت تتعامل مع موروث متهم؟
•• ما يخصني في التعامل مع الموروث، هو أن لا أحاسب أحداً خارج عصره، فعندما أتحدث عن المعتزلة مثلاً أعتبر حسناتهم وسيئاتهم في عصرهم، وكذلك الحال إذا تحدثنا عن أبي حامد الغزالي، الكاتب الفذ، ونزاعه مع الفلاسفة، حتى دخل الفلسفة ولم يخرج منها، مثلما قيل فيه، لا أحاسبه بأدوات هذا العصر، وهذا يسحبنا إلى ابن تيمية، المتوفى 728هـ، لا أؤاخذه بما يجري الآن، إلا لمَن يريد إحياء تراثه، وتفعيله في المجتمع، بينما الرجل عاش زمن النزاع مع المغول والمماليك، فماذا نطلب منه أن يقول، أما أن تأخذ الجماعات المتشددة ما جاء في فتاواه، يطبقونها في العصر الحاضر، فهذا مأخذ آخر.
• أيهما بدأ الجناية على العرب؛ القوميون أم الإسلامويون؟
•• إذا كان للقوميين جناية، فأمرها يهون وتتبدد، لكن المشكلة في جناية الإسلامويين، لأنهم أرادوا احتكار الدين، وبالتالي ما ينظرون له وينفذونه فهو من الله تعالى، ويصبح مقدساً، حتى القتل عندهم يصبح مقدساً. أعطيك مثالاً، عندما بدأت الثورة الإسلامية بإيران وانتصرت، فحصلت إعدامات فظيعة، وفوق سطح البناية التي يُقيم فيها الخميني نفسه، يظهر أحد الإسلامويين؛ وهو عبدالله النفيسي، فيكتب مؤيداً، تحت عنوان «أثخن بهم يا خميني بوركت يداك»، السبب كون الخميني يعتبرهم أعداء الله، وكذلك النفيسي كان مذهب النفيسي الإخواني، ومقاله منشور في صحيفة «الهدف الكويتية» 1979، وقد كتبت بحثاً عن هذه القضية، عندما زودني أحد الأصدقاء الكويتيين بأصل المقال. فمن هنا نفهم جناية الإسلامويين، غير أن القوميين والإسلامويين معاً اشتركوا باستغلال قضية فلسطين، وبالنتيجة ضيعوا فلسطين، فما وصل إسلاموي ولا قومي وعاث بالدماء إلا بهذه الراية، رحم الله بورقيبة، لقد فهم القصة، وأراد للفلسطينيين أكثر مما يريدونه الآن، لكنه شُتم من قبل الفئتين.
• هل حل اليمين المتطرف محل اليسار المتخشب؟
•• لا أعتقد ذلك، إنما اليمين المتطرف واليسار المتخشب، حسب توصيفك، أخذا بالانسحاب، والآن المنطقة في غليان، والكفة لصالح العقل، وعندي القياس بالأحسن والأسوأ، هو ما يقدمه الحاكم أو الحزب لشعبه، فإذا نعم شعبه بالأمن والرخاء وعدم العوز، وأن لا يقف طوابير على دول اللجوء، ويغرق أطفاله ونساؤه وشيوخه بعد أن تحملهم سفن المهربين وسط عباب البحار، فهذا هو المثال الأجدر على البقاء، والأمثل عندي من دون تحديد نظرية أو عقيدة.
• متى يمكن للعلمانية أن تحل في العالم العربي بديلاً للإسلام السياسي؟
•• دعني أعترض على السؤال، فالعلمانية ليست وصفة جاهزة، إنما يمكن تلمسها في العديد مِن الدول الإسلامية، فإذا نظرت إلى قوانين الاقتصاد والتعليم والعقوبات، فستجد فيها نسبة كبيرة من العلمانية، بفتح العين، ونفسه الإسلام السياسي يتعذر عليه تطبيق شعاره في الحاكمية الإلهية، هذه كذبة لم تطبق في يوم من الأيام. أجد روح التمدن ستفرض نفسها، في المجتمعات والدول، المدنية التي تعطيك حرية التدين، ولكن لا تمنحك حق فرض عقيدتك عليهم. في الاقتصاد والاجتماع ترى المدنية تتتجاوز فرض القيود على المرأة، وعلى المجتمع باسم الدين والأعراف.
• بماذا نفكك حاكمية المودودي وولاية فقيه الخميني؟
•• إنَّ الحاكميتين واحدة، بمفهومها الإلهي، حسب رأي صاحبيها، مع اختلاف المظهر، تلك حاكمية الله مباشرةً، وهذه حاكمية الله عبر الإمام المعصوم، وخليفته الولي الفقيه، النموذج الأول فشل في أكثر من دولة، والنموذج الثاني منذ 40 عاماً، وعادت إيران لحكم المؤسسة العسكرية، المتمثلة بالحرس الثوري، وهو الذي يدير البلاد اقتصاديا وأمنيا، والولي الفقيه على رأس هذه المؤسسة. أرى أنَّ الحاكميتين لو حُصرتا داخل الحدود الوطنية لانتهتا مباشرة، لأنهما نظامان أو فكرتان تناسبان العصر الإمبراطوري وليس العصر الوطني، لهذا وصف الإخوان المسلمين تنظيمهم بالدولي، وللولي الفقيه مليشياته وأحزاب خارج حدوده.
• ما السبيل لمحو أثر الإخوان من الشعور الشعبي؟
•• يغلب على الظن أن الإخوان بعد تسلم السلطة بالسودان ومصر وما شاركوا به بتونس وليبيا، كلها تجارب أخذت تخفت مِن ألقهم بين الناس، وهذا الألق بسبب لباسهم الديني، وأقصد التلبس بالحالة الظاهرة للدين، فهل تجدهم الآن يتحدثون عن «الإسلام هو الحل»؟ لا أعتقد أنَّ أحداً يجرؤ أن يتحدث به، لذا أخذوا يميلون إلى الظهور بمظهر المدنية، على شاكلة راشد الغنوشي وأردوغان، ولمعروف الرصافي، وما قاله في الثلاثينيات، كان سابقاً لعصره، ما يعبر به عن هذا التحول الانتهازي، غير الحقيقي: «أُحبولةُ الدِّين ركت من تقادمها/ فاعتاض عنها الورى أُحبولة الوطن».
• ما الذي يتوّلد في ذهنك عن لغة الحوار في مواقع التواصل؟
•• تختلف لغة الحوار باختلاف المتحاورين واختلاف القضايا، فإذا قصدت الحوار الثَّقافي، فليس هناك قيود وحدود فيه، لكننا هنا نقف عند جزئية من الحوار، وهو هل المحاور يعبّر عن رأيه، في كذا وكذا، أم يرد عليك بنصوص مقدسة، وهنا يسقط الحوار، لأن الآخر لا يتحدث من عقله إنما يتحدث بتراث عتيق في حافظته، وهنا تتوقف لغة الكلام، وأذكر في ما قرأته عن حوار رجال دين مسلمين أرسلهم هارون الرَّشيد، المتوفى 193هـ، للحوار مع السمنية أو البوذية بالهند، فاعترض المحاور باسم الملك الهندي على المحاور المسلم، قائلاً ما معناه: أنت لم تتكلم بل أنت تقول! فاضطر الرشيد لإرسال أحد المتكلمين، كي يحاورهم بعقله.
إن هذه الرواية، وربَّما تكون مختلقة من قِبل أنصار العقل، لكنها ذات دلالة، وهي أن المفروض في الحوار أن تتحدث عن قناعاتك، ولا تورد نصا مقدسا. أما إذا كان الحوار في السّياسة، فلا يكون المناسب برامج مثل «الاتجاه المعاكس.. زعيق في زعيق»، إنما يكون الانطلاق مِن القضية وليس من الشخصية التي أمامك، وبموقف مسبق. أظن أن هناك تراثا من ثقافة المناظرات، وقيودها وآدابها، أتى عليها المؤرخون، لكن الغالب منهم، عندما يكون الحوار بين مسلم وغير مسلم، لابد أن يكون القاطع هو المسلم، وهذا ما قرأته في كتاب تنبيه المفتري لابن عساكر عن مناظرة أبي بكر الباقلاني في بلاد قيصر الروم، وكان مبعوثا من قبل البويهيين. كذلك كان مجلس عبدالله المأمون للمناظرة يُعقد كل يوم ثلاثاء، وتجرى المناظرة بين مختلف أرباب المذاهب والأديان، وبحضور الخليفة نفسه.
• ما أثر الشعاراتيين النزقين في تويتر والفيسبوك بطرحهم المتشدد بدعوى الغيرة على الدين والوطن؟
•• إن الغيرة على دين قد تكون صادقة، تُمارس مِن قِبل فقهاء نصوحين لا يقدمون أنفسهم على أن الجنة في ظلالهم، وهذا لا يُعترض عليه بطبيعة الحال، ما زالت النَّصيحة تُقدم وفق مبدأ «الدين النصيحة»، لكن المتاجرة بهذه الغيرة هي الغالبة، وهذا كثيراً ما يجري وفق مبدأ «سداً للذرائع»، وكان يصوغون به عدم قيادة المرأة للسيارة مثلاً، أو عدم الذهاب إلى البعثات التعليمية، والإنسان صاحب العقل والروية يميز بين النزق بالنصيحة، الممتهن وبين الناصح الذي يميز بين العصور.
• ماذا يحتاج المجتمع العربي ليخرج من احتقاناته وردات الفعل العاطفية؟ وعلى من تقع المسؤولية؟
•• المسألة كبيرة جداً، لكنني أظن أن حل المتطلبات الاقتصادية، وتنمية المجتمعات، والسيطرة على الفقر، وإبعاد مِن يريد تسيير المجتمع وفق عقيدته، تسهم في التخفيف من الاحتقانات، وعندي ثقة بما ورد عند الفخري في الآداب السلطانية، لمصنفه ابن الطقطقي، المتوفى 708هـ «النَّاس على دين ملوكهم»، ثم كررها ابن خلدون، المتوفى السنة 808هـ، وقال «الناس على دين الملك»، وهي مقولة قديمة، بمعنى أن الحاكم يستطيع التأثير في مجتمعه سلباً أو إيجاباً.
• أي قيادات المجتمع آمنة؛ النخبة أم السلطة؟
•• يصعب التحديد، فلكل منهما مجاله، فأوروبا تحررت من التدين النزق، والحروب بين الطوائف والعنف الديني، بالمثقف والملك، أي النخبة والسلطة، هذا إذا كان هناك انسجام في الرؤية بينهما، بعيدا عن التخوين.
• إلى أي مستوى ترى أن التراكم الثقافي التنويري منبتّ؟ وما سبب الانبتات؟
•• ليس هناك ثقافة تأتي مِن العدم، لابد أنها نشأت بذرة، ليست الثقافة فقط إنما كلّ ظاهرة اجتماعية كانت أم دينية أيضاً، ليس هناك أصحاب نظريات خالصة لهم، صحيح أن صاحب النظرية، المفكر أو الفيلسوف، صاغ منطوقها، لكن هذا المنطوق لم ينشأ في ذهنه محضاً، إنما جاء من تراكم معرفي، وهذا لا يحسب لصوصية معرفية مثلما تحدث البعض عن ذلك، إنما هو تراكم طبيعي وفق قانون العلاقة بين القديم والجديد. كذلك ما يخص الثقافة التَّنويرية، تظهر في كم ونوع معرفي نشأ من عصر إلى آخر، لا يمكن العودة به إلى حيث النشأة، فتلك النشأة من الصعب تحديدها، لذا لم يكن أبو هلال العسكري، المتوفى على ما أظن في 399هـ، موفقاً كثيراً في كتابه الأوائل، كما أورده محمد بن حبيب، المتوفى 245هـ، في محبره. أما سبب الانبتات فهو العنف وميل المجتمعات للتقليد والمحاكاة والخوف من التغيير.
•ما موقع المثقف التنويري اليوم؟ وما دوره بين مجتمع له تطلعات وسلطة لها أدبياتها؟
•• الثقافة إنسانية بمحتواها، وبوجودها، وبإنباتها مثلما تفضلت في المسألة السابقة، وعلى وجه الخصوص اليوم نحن في عالم شرقه صار غربه وغربه صار شرقه، ولمحمد مهدي الجواهري: «وتلاقت الدَّنيا فكاد مشرق/ من أهلها بمغرب يتعثر»، هذه هي الثقافة منذ أقدم العصور تلاق بين اتجاهات الأرض الأربعة، على مختلف ما فيها من تنوع. أما عن موقع المثقف فهو النخبة الموازية للسلطة، لكن بلا قوة سياسية، وإنما بقوة معرفيَّة.